پاسارغاد

پاسارغاد: جوهرة الحضارة الفارسية ومهد الإمبراطورية الأخمينية

قع مدينة پاسارغاد في قلب محافظة فارس جنوب إيران، وتُعتبر من أقدم المدن التاريخية التي ما زالت تروي قصص الحضارة الفارسية العظيمة. هذه المدينة كانت أول عاصمة للإمبراطورية الأخمينية التي أسسها كوروش الكبير في القرن السادس قبل الميلاد، وقد شكلت بداية العصر الذهبي للحضارة الإيرانية من حيث الإدارة والعمارة والفن والثقافة. في عام 2004، تم إدراج موقع پاسارغاد على قائمة التراث العالمي لليونسكو، كاعتراف عالمي بقيمته التاريخية والإنسانية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان.

تتميز پاسارغاد بجمالها الطبيعي وموقعها الجغرافي الفريد، حيث تقع على سهل مرتفع تحيط به الجبال من عدة جهات، مما يمنحها طابعًا دفاعيًا وبيئة مميزة. هذا الموقع لم يكن صدفة، بل اختيارًا استراتيجيًا من قبل كوروش الكبير ليكون مركزًا لحكمه ومقرًا لانطلاق مشروعه السياسي والحضاري الذي امتد من آسيا الوسطى حتى البحر المتوسط. وقد صُممت المدينة بعناية فائقة، بحيث دمجت بين الهندسة المعمارية المتطورة والنظام الإداري المتين.


التاريخ والتأسيس

بُنيت پاسارغاد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، بعد أن تمكن كوروش الكبير من توحيد الممالك الفارسية والسيطرة على مدينة بابل. هذه المدينة لم تكن مجرد عاصمة سياسية فحسب، بل كانت مهدًا لفكر جديد يقوم على التسامح الديني، واحترام الأعراق، وتنظيم الدولة بشكل لم يسبق له مثيل في المنطقة. لقد وضع كوروش من خلال هذه المدينة حجر الأساس لإمبراطورية متعددة القوميات والثقافات.

يُعتقد أن أعمال بناء المدينة بدأت في حوالي عام 546 ق.م، واستمرت حتى وفاة كوروش عام 530 ق.م. بعد وفاته، دُفن في هذه المدينة، وتم بناء ضريح له لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا، كرمز للعدالة والسلطة المتزنة. خلفه ابنه قمبيز الثاني، الذي حافظ على مكانة المدينة لبعض الوقت قبل أن تنتقل العاصمة إلى سوسا ثم إلى برسيبوليس.


المعالم البارزة في پاسارغاد

1. ضريح كوروش الكبير

يُعد هذا الضريح من أبرز وأهم المعالم في پاسارغاد، ليس فقط لأنه قبر مؤسس الإمبراطورية، بل لأنه يُجسد أيضًا عظمة العمارة الفارسية في بساطتها. الضريح يتكون من قاعدة حجرية ذات درجات تؤدي إلى غرفة مستطيلة الشكل مبنية من الحجارة الضخمة. وقد تم تصميمه بطريقة تعكس الهيبة والبساطة في آنٍ واحد، مما يجعله من أجمل المعالم الجنائزية في التاريخ القديم. العديد من الرحالة والمؤرخين، مثل سترابون وأريستوبولوس، وصفوا هذا الضريح وأكدوا احترام خلفاء كوروش له.

2. القصور الملكية

تضم المدينة مجموعة من القصور، من أهمها قصر البوابة، وقصر الاستقبال، وقصر السكن الخاص. هذه القصور بُنيت باستخدام أعمدة ضخمة، وكانت مزينة بنقوش تعكس القوة والرمزية الدينية والسياسية في الإمبراطورية الأخمينية. يتميز قصر البوابة بوجود مشهد شهير لكوروش وهو يُحيي الزوار بطريقة رسمية، بينما يضم قصر الاستقبال أعمدة يصل ارتفاعها إلى أكثر من 15 مترًا، مما يدل على فخامة البناء ودقته. المواد المستخدمة في هذه القصور كانت من الحجارة الكلسية والرخام، وقد تم جلب بعضها من أماكن بعيدة، ما يعكس قدرات الدولة اللوجستية آنذاك.

3. الحدائق الملكية الفارسية

پاسارغاد أيضًا تُعد مهد أول حدائق فارسية رسمية، والمعروفة باسم “چاهارباغ” (الحديقة الرباعية). هذه الحدائق صُممت بأسلوب هندسي دقيق، حيث تُقسم المساحات إلى أربع مناطق بواسطة قنوات مائية تتقاطع عند مركز الحديقة. هذه الفكرة أثّرت لاحقًا على تصميم الحدائق الإسلامية والمغولية، مثل حدائق شاليمار في الهند. تم تصميم الحدائق بشكل يرمز إلى الجنة في المعتقدات الفارسية القديمة، مما يعكس روحانية وعمق الفلسفة التي كانت وراء العمارة.

4. تل تخت (المنصة المرتفعة)

يقع هذا المعلم على تل مرتفع شمال غرب الموقع، ويُعتقد أنه كان بمثابة قلعة عسكرية أو منصة مراقبة للمدينة والمنطقة المحيطة بها. يحتوي هذا التل على بقايا لجدران ضخمة وأساسات غرف، وربما كان يُستخدم أيضًا كمقر إداري أو ديني في بعض الفترات. يعطي هذا التل نظرة بانورامية رائعة على المدينة، وقد استخدم أيضًا للدفاع عن العاصمة في حالات الطوارئ.


القيمة الثقافية والدينية

حتى بعد الفتح الإسلامي لإيران، لم تفقد پاسارغاد أهميتها الدينية والثقافية. فقد أطلق السكان المحليون على ضريح كوروش اسم “مشهد أم النبي” أو “قبر سليمان”، حيث ربطوه بأساطير دينية وقصص الأنبياء. هذا يدل على مدى احترام الناس لهذا المكان عبر العصور، حتى بعد تغير الأديان والحضارات. اليوم، لا تزال المدينة تستقطب الزوار من مختلف أنحاء العالم، الذين يأتون لاكتشاف عمق التاريخ والتنوع الثقافي في إيران.


الموقع والمناخ

پاسارغاد تقع على بعد 90 كيلومترًا شمال شرق مدينة شيراز، على ارتفاع 1900 متر فوق مستوى سطح البحر. مناخ المنطقة معتدل إلى بارد، مع شتاء بارد وصيف معتدل. يُسجل متوسط درجات الحرارة السنوي حوالي 12.5 درجة مئوية، وهطول الأمطار يتراوح بين 300 إلى 400 ملم سنويًا، مما يجعل المنطقة مناسبة للزراعة والرعي.


التسجيل في قائمة التراث العالمي

في عام 2004، تم تسجيل پاسارغاد في قائمة التراث العالمي لليونسكو وفقًا للمعايير (i) و(ii) و(iii) و(iv)، نظرًا لتجسيدها لروائع العمارة والفكر السياسي والحضاري في الشرق القديم. اليوم، تُدار المدينة من قبل هيئة التراث الثقافي الإيراني، وتُبذل جهود كبيرة للحفاظ على المعالم وترميمها وحمايتها من التآكل والدمار.


الخاتمة

پاسارغاد ليست مجرد مدينة أثرية، بل هي مرآة لحضارة عريقة ونقطة تحول في التاريخ الإيراني القديم. مع كل خطوة في أزقتها وبين أعمدتها المهيبة، يشعر الزائر بعبق التاريخ وعبقرية الأجداد. زيارتها تُعد رحلة إلى ماضٍ مجيد وحضارة إنسانية عظيمة ساهمت في تشكيل العالم كما نعرفه اليوم.

دیدگاه‌ خود را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *